عبدالحق الصنايبي

لقد كانت المملكة من أقدم الدول التي عانت من الفكر المتطرف، ويُحسب لها أنها راكمت قناعة سياسية على ضرورة قطع شأفة الإرهاب سواء من خلال المواجهة الفكرية أو المقاربة الأمنية الصرفة..

«السعودية لم تكن كذلك قبل عام 1979.. السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 79 لأسباب كثيرة ليس المجال اليوم لذكرها، فنحن لم نكن كذلك.. نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان، وعلى جميع التقاليد والشعوب.. 70 في المئة من الشعب السعودي هو أقل من 30 سنة وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة، سوف ندمرهم اليوم وفوراً».

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان

يجمع جل المتتبعين للشأن السعودي أن المملكة تعيش على وقع ثورة هادئة يقودها الملك سلمان وولي عهده على جميع الجبهات السياسية والاقتصادية والأمنية والدينية، وإذا كانت الإجراءات التي تقوم بها المملكة العربية السعودية على هذه الجبهات تبقى مفهومة ومطلوبة أيضاً، فإن الحرب الفكرية التي تقودها ضد رواسب الفكر المتطرف أسالت غير قليل من المداد، حيث اعتبرها البعض نتاجاً لسياقات دولية وبيئة استراتيجية متقلبة، فيما اعتبرها البعض الآخر لصيقة بطبيعة الشخصية المنفتحة لولي العهد محمد بن سلمان، والذي فرضت كاريزمته القيادية توجهاً سيادياً أفضى إلى تبني منطق المواجهة المعلنة مع الفكر المتطرف ومواجهة الغلو الديني في جميع تمظهراته.

إن العودة إلى الإرهاصات التاريخية لتبلور الظاهرة التكفيرية منذ ظهور الخوارج على إثر ما اصطلح عليه بـ»واقعة التحكيم» بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وتوثيقنا لتاريخ المملكة العربية السعودية، خصوصاً على عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، يولد لدينا القناعة بكون الحرب ضد التطرف والغلو ليست وليدة سياقات استراتيجية معينة، بل إنها تضرب في جذور التاريخ السعودي، وخصوصاً مع بدايات بناء الدولة السعودية الثالثة مع بروز المواجهة الفكرية والعسكرية.

لقد كانت المملكة من أقدم الدول التي عانت من الفكر المتطرف، ويُحسب لها أنها راكمت قناعة سياسية على ضرورة قطع شأفة الإرهاب سواء من خلال المواجهة الفكرية أو المقاربة الأمنية الصرفة.

وتأخذنا قصة البداية إلى علاقة الملك عبدالعزيز «بإخوان نجد» والذين، وإن كانوا ساهموا بشكل كبير في توسيع نفوذ الدولة السعودية وأخضعوا العديد من المناطق المجاورة، إلا أنهم عُرفوا بالتشدد في فهم النص الديني والارتباط بظاهر الآيات القرآنية، مما جعلهم يدخلون في صدامات فقهية ونقاشات عقدية مع الملك عبدالعزيز (سلطان نجد والحجاز آنذاك) وصلت إلى حد تكفيره شخصياً، واتهموه بأنه «لم يكن يمارس العقيدة ممارسة كاملة». (جون حبيب: الإخوان السعوديون ص 144).

هذا التصعيد بين «الإخوان» والملك عبدالعزيز، يقول عنه أمين الريحاني: «الإخوان شأنهم شأن المرتزقة، مكروهين ويخافهم الناس. ومن الصعب القول إنهم يشكلون أساساً مناسباً لإمبراطورية ابن سعود.. إنهم يتهمونه الآن باعتداله الشديد مع المسلمين الآخرين.. يضاف إلى ذلك أن رفض الإخوان لموقفه آخذ في التفاقم بعد إدخاله للإصلاحات المختلفة». (تاريخ نجد الحديث ص 262).

إن هذه الشهادة لواحد من الذين عاصروا جميع هذه الأحداث (ولد سنة 1876 وتوفي سنة 1940م) تعطي فكرة على أن ظاهرة اعتدال السلطة السياسية ليست بجديدة ولا بدعة تقدمها الأسرة الحاكمة بالمملكة، ولكنها ثقافة مترسخة وقاعدة ثابتة عند أسرة آل سعود حتى قبل تأسيس الدولة السعودية الثالثة سنة 1932م.

ويمكن القول إن الملك عبدالعزيز سبق العديد من الدول الغربية في التقعيد لقاعدة «المصلحة الوطنية» كمحدد في الاختيارات السياسية والاستراتيجية، حيث تطلب الأمر، مثلاً من الولايات المتحدة الأميركية، عقدين من الزمان وبالضبط حتى العام 1948م، تاريخ إصدار كتاب «السياسة بين الأمم» لمؤلفه هانز مورغانتو، لتتبلور لديهم مبادئ التي سطرتها «المدرسة الواقعية» للعلاقات الدولية، والتي ترتكز على مبادئ «المصلحة الوطنية» ونظرية «التوازن»، وهي المحددات التي مازالت تحدد اختيارات صانع القرار الأميركي.