لمن ما زال يذكر ويتذكر، تحل بعد أيام الذكرى التاسعة والأربعون لاندلاع الحرب الاهلية اللبنانية في الثالث عشر من نيسان (أبريل) 1975، إثر حادثة بوسطة عين الرمانة الشهيرة التي كانت الشرارة التي ألهبت البلد في حرب طويلة استمرت 15 عاماً دمرت كل شيء تقريباً، الحجر والبشر.

لم تكن الحرب وليدة ساعتها، بل كانت متوقعة ومخططاً لها، كان المشاركون فيها جميعاً يعرفون أنها ستقع يوماً ما، لم يأت السلاح في لحظة، كان مخزناً ومزيّتاً وملقّماً بانتظار الشرارة التي ستقدح الزناد، وقد سبقتها إشاراتها الواضحة في حوادث متنقلة ابتداءً من عام 1969، طرفاها مسلحون فلسطينيون وكتائبيون أولاً، ثم بلغت ذروتها في الاشتباكات بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية في مخيمات بيروت عام 1973 والتي انتهت بتكريس السلاح الفلسطيني في المخيمات، بعد ضغوط داخلية وخارجية، وبعدما كان اتفاق القاهرة قد قنّنه عام 1969 في الجنوب اللبناني في ما بات لاحقاً يُعرف بـ"فتح لاند".

عشية الذكرى التي يتذكرها لبنانيو ذلك الزمن تحت شعار "تنذكر ما تنعاد" يأتي حادث مقتل المسؤول في حزب "القوات اللبنانية" في جبيل باسكال سليمان، وما أشاعه من ردود فعل ومواقف ليحرك مشاعر كامنة، ولكن أيضاً ليثير الرعب من تراكم حوادث قد تبدو فردية وعادية، لكنها في الواقع تتجمع لتصبح برميل بارود قابلاً للانفجار في أي لحظة.

قتل سليمان بعد خطفه وبالطريقة التي تم بها هو أكبر من جريمة عادية نظراً إلى موقع الرجل وإلى حالة الشد النفسي والسياسي في البلد، وأياً كانت دوافع القتلة، وسواء أكانوا سوريين أم لبنانيين أم مختلطين، فإن الجريمة أحدثت أثرها السلبي الذي سيضاف إلى تراكمات سابقة، حتى لو مرت من دون تداعيات أمنية خطيرة.

الكلام الذي قيل في الاحتجاجات والتجمعات وكُتب على مواقع التواصل الاجتماعي، وحملة التحريض وتبادل الاتهامات بين مسيحيين من جماعة "القوات" و"الكتائب"، وشيعة من أنصار "حزب الله"، والكلام "الكبير" والتحدي اللامسؤول من أشخاص يفترض أن يكونوا مسؤولين، ومن العوام، كانت أخطر بكثير من مجرد رد فعل عاطفي وعفوي. ما باحت به الأنفس يختزن الكثير الكثير من النيات والأفكار والرغبات لدى الجميع.

ربما خفف الإعلان عن هوية القتلة من "هول" الكارثة. إنهم سوريون وبالتالي يمكن الانتقام منهم بسهولة وصب جام الغضب عليهم وعلى كل من يحمل هويتهم، وتحميل النزوح السوري عموماً مسؤولية الجريمة وما سبقها من جرائم وما قد يلحقها. الحمد لله أن الاتهامات الأولية لم تصدق ولم يكن القتلة من مسلحي "حزب الله"، وإلا لما انتهت على خير. ليس الأمر مبالغة إذا عطفت الجريمة على الجو السياسي المكهرب في البلد العاجز عن أي شيء.

ما جرى ويجري ليس مزحة ولا حادثاً عابراً، لقد أعاد شبح الحرب الأهلية إلى الواجهة. إنها كارثة إذا كانت القوى السياسية والحزبية في لبنان لم تلتقط بعد الإشارات المتتالية إلى انفجار ما قد يكون بات قريباً. ماذا يفعل السياسيون في لبنان والبلد ينزلق إلى لجّة خطيرة قد تبتلعه وتبتلعهم؟ إذا كانوا يدرون فتلك مصيبة وإذا كانوا لا يدرون فالمصيبة أعظم.

لا داعي لإخفاء الحقائق والتستر على الواقع المعقد والأعصاب المشدودة. البلد بلا سلطة حقيقية والدولة بلا هيبة والعشائر والعائلات المسلحة أقوى من الدولة، وعصابات القتل والتشليح تنتشر من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال وتمارس إجرامها بلا رادع أو وازع، والقضاء بعضه في جيوب السياسيين يأتمر بأمرهم لا بأمر القانون والضمير، والأحزاب لا تكترث لوجود الدولة أو عدمه، السلاح منتشر في كل بيت، أقله السلاج الفردي، والخلاف على سلاح "حزب الله" ما زال يقسم اللبنانيين بحدة إلى قسمين متناحرين، وهو انقسام متصاعد يصيب عجلة الدولة بالشلل التام، وحرب غزة تعقّد المسارات السياسية أكثر مما هي معقدة أصلاً. الوضع غير قابل للتجميل، فيما إسرائيل تهدد باجتياح جديد للبنان.

فتحت الجريمة أكثر من جرح على أكثر من باب. كما فتحت أكثر من سؤال عن مغزى توقيتها وارتباطها بقضية النزوح السوري وتصاعد الحديث عنها، وزيارة الرئيس القبرصي بيروت من أجلها والكلام الذي سمعه من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وشكواهما من عبء هذا النزوح.

هل يمكن ربطها أيضاً بمخطط إسرائيلي لضرب لبنان مرة جديدة؟