قال تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 203] تتجلى عظمة القرآن الكريم في ألفاظه المحكمة المنتقاة بحكمة؛ لذا أشارت الآية الكريمة إلى وصف القرآن الكريم وآياته بأنها «بصائر»، ومفردها بصيرة، وهي: قوة الإدراك والفطنة، كما يُعد من أهم معانيها النظر النافذ إلى خفايا الأمور وبُعد النظر الذي يتطلبه فهم القرآن الكريم وألفاظه الحكيمة. لذلك، فإن قولنا: فلان نافذ البصيرة؛، أي: ذو ذهن وعقل ثاقب، وإدراك قوي نافذ إلى خفايا الأمور، وهو ما تتطلبه الفروق اللغوية للتمييز بين ألفاظ العربية ومفرداتها، فلا يفطن إلى خفايا تلك الفروق اللغوية إلا البصيرة العربية لأصحاب الذهن الثاقب والإدراك الفطن النافذ الذي يكشف عن تلك الخفايا لمعاني الألفاظ ودقة مفرداتها، فإن كان البصر هو: الرؤية الظاهرة؛ فإن البصيرة هي: الرؤية العلمية الخفية لما لم يظهر من فروق لغوية إلا بتلك الفطنة والعقل الثاقب.

وبناءً على ما تقدَّم، فإن الفروق اللغوية هي ما تراه تلك البصيرة النافذة في خفايا الألفاظ من معانٍ تتفرد بها كل لفظة عن مترادفاتها في القرآن الكريم على سبيل المثال دون لفظة أخرى مترادفة معها؛ رغم التقارب في المعنى بين تلك المترادفات، وإنما هو لوجود معنى خفي لا تراه إلا تلك الفطنة والعقل الثاقب؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]، ففي دقة اختيار ألفاظه وما تحمله من معانٍ هو ما يسمى (الفروق اللغوية)؛، هذا المفهوم اللغوي العلمي الدقيق الذي يعد من الأهمية بمكان في اللغة العربية، حتى أن بعض علماء اللغة أفرد وصنف فيه مصنفاً خاصاً؛. ومن أشهر تلك المصنفات كتاب «الفروق اللغوية» لأبي هلال العسكري الذي صنفه في القرن الرابع للهجرة، والذي طبع لأول مرة في مصر عام 1935م، وذلك عن أربع نسخ مخطوطة، وحققه حسام الدين القدسي، ويُقال إن أحد تلامذته اختصره في كتاب «اللمع من الفروق» كما أشار بروكلمان إلى ذلك في كتابه «تاريخ الأدب العربي».

لذا، فإننا نود أن نشير هنا إلى واحدة من أبرز خصائص هذه المعجزة التي تفردت بها اللغة الشريفة من بين جميع اللغات، ومن تلك الخصائص «الفروق اللغوية في اللغة العربية»؛ وذلك لأن الله تحدى كل قوم بما اشتهروا به ليعجزهم به وليقيم عليهم الحجج والبراهين ليأتوا بمثله إن كانوا صادقين، فقوم موسى، عليه السلام، اشتهر بينهم السحر فتحداهم الله تعالى بعصا موسى. وقوم عيسى، عليه السلام، اشتهروا بالطب فتحداهم لله تعالى بمعجزة الطب لدى عيسى، عليه السلام، حيث كان يبرئ الأكمه والأبرص. لذا، كان تحدي قريش في لسانهم العربي لما اشتهر بينهم من فصاحة وبيان في اللسان العربي؛ لذا فإن من أبرز ما تحداهم به الله هو اختيار اللفظ ببصيرة يدرك بها ذلك العربي الفصيح معانيه الخفية بفطنته وعقله الثاقب.

لكن هناك من سبق أبا هلال العسكري ووضع كتاباً مستقلاً في الفروق اللغوية هو الجاحظ وذلك في كتابه «الفرق في اللغة» كما أشار إلى ذلك بروكلمان في كتابه «تاريخ الأدب العربي»،؛ كما ذكر أن نسخة منه في مكتبة القرويين بمدينة فاس ولعله يحتاج إلى تحقيق واقتناء لمخطوطه، كما أن هناك من لم يفرد مصنفاً في الفروق اللغوية لكنه خصص له باباً ضمن مصنفه كابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب»، حيث خصص باباً حول «ما يضعه الناس في غير موضعه»، أي: الألفاظ والمترادفات اللغوية. لذا، فإن أول من وضع كتاباً مستقلاً في الفروق اللغوية هو الجاحظ، لكن يظل مصنف أبي هلال العسكري أوسع المصنفات في الفروق اللغوية الذي بوَّبهُ بثلاثين باباً من طائفة الألفاظ المتقاربة في المعنى في موضوع محدد، فتبعاً للدلالات الأصلية للألفاظ،ذكر العسكري الفروق اللغوية بينها.

أما عن سبب التصنيف والبحث، سواء بكتاب متفرد في الفروق اللغوية أو بباب ضمن مصنف أو مسألة، فإن هؤلاء العلماء اللغويين فطنوا إلى الخلط اللغوي لدى الناس واستعمالهم للمفردات المتقاربة المعاني، بل عدّوه من فساد اللغة؛ لذلك، اجتهدوا في هذه المسألة لإعادة المفردات والألفاظ إلى معانيها الحقيقية. ولذلك، أشار أبو هلال العسكري في مقدمة كتابه إلى المبررات التي دفعته إلى التصنيف، حيث وجد فراغاً لدى المتعلم من حيث المصنفات في هذا المجال. يقول العسكري في مقدمة كتابه «الفروق اللغوية»: «ثم إني ما رأيت نوعاً من العلوم، وفناً من الآداب، إلا وقد صنف فيه كتب تجمع أطرافه، وتنظم أصنافه، إلا الكلام في الفروق اللغوية بين معانٍ تقاربت حتى أشكل الفرق بينها، نحو: العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والإرادة والمشيئة، والغضب والسخط، والخطأ والغلط... إلخ».

كما أشار العسكري في أول باب في كتابه إلى أن اختلاف العبارات والأسماء يوُجب اختلاف المعاني والفروق بينها في الدلالات؛ مستشهداً بقول المبرِّد إمام العربية في بغداد، حيث يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: 48]: فعطف «شرعةً» على «منهاج»؛ لأن الشِّرعة لأول الشيء والمنهاج لمعظمه ومتسعه، واستشهد على ذلك بقولهم «شرع فلان في كذا إذا ابتدأه، وأنهج البلى في الثوب إذا اتسع فيه».

*مدير المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج - أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية