عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في 13 نيسان (أبريل) 1975، كنتُ لما أزل طفلاً.

حاولتُ طوال عمري أن أفهم الأسباب التي دفعت بأبناء وطني إلى التقاتل والاستعانة بالغرباء، والتسبب بكم لا يُنتسى من المآسي والكوارث.

لم تكن لديّ عقيدة ثابتة في رحلة البحث هذه. كانت التفسيرات، ترمي بي يساراً حيناً ويميناً حيناً آخر، إلى أن توقفتُ عن البحث في "أسرار التاريخ" وسلّمتُ نفسي لعاطفة وفكرة. العاطفة هي كره لا متناه للحرب الأهلية، أمّا الفكرة فهي أنّ اللجوء إلى الدولة يحمي الجميع من العودة إلى هذه التجربة الكريهة!

ولكنّ التطورات الأخيرة التي نتابعها، ساعة بساعة، وأحياناً كثيرة، لحظة بلحظة، أعادت فتح ملف البحث في أسباب اندلاع حرب 1975 على خلفية الخوف من تكرارها، في توقيت قد لا نتمكن من استشرافه.

لم يكن ممكناً أن نفهم هذا الانقسام الخلافي الكبير على طريقة التعامل مع القضية الفلسطينية، بقراءة الأحكام المسبقة ومحاولة تفسير النيات، ولكن، في الأشهر الستة الماضية، بات الوضوح كبيراً.

لنترك التاريخ المتمحور حول "منظمة التحرير الفلسطينية" ودورها جانباً، ولنركز على "حزب الله" كنموذج يمكن أن يحاكي الماضي.

لقد قرر هذا الحزب الذي انتزع لنفسه حرية العمل المسلّح، كجزء لا يتجزّأ من محور إقليمي بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران، أن يُقحم لبنان في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، متجاوزاً القرار السيادي للسلطات الدستورية والمؤسسات الشرعية ورفض شرائح واسعة من اللبنانيّين بمن فيهم هؤلاء الذين كانوا في تحالف سلطوي معه.

ولقد أحدث هذا القرار الأحادي الذي اتخذه "حزب الله" امتعاضاً واسعاً في البلاد، ولكنّ ذلك لم يؤثر عليه، وكان لسان حاله ولا يزال يقول: "من يُبالي بكم وبرفضكم وبصراخكم، فنحن نحارب كبار هذا العالم، ولا يمكننا أن نلتفت إليكم يا صغار ويا تافهين ويا خبثاء ويا صهاينة".

ولم يكتفِ "حزب الله" بالتعاطي مع هؤلاء اللبنانيّين وسلطاتهم ومؤسساتهم على أساس أنّهم من فئة "النكرة"، بل أمعن في تخوين وتخويف وترهيب من تجرأ وتحرّك أو رفع الصوت "أعلى من المسموح به". لم يستهدف بهذا السلوك الفئات الشعبية فحسب بل المرجعيات السياسية والوطنية على اختلافها، أيضاً.

كوّن هذا النهج عواطف سلبية تجاه "حزب الله"، فهو فيما لا يأبه بتسوية حقيقية لإملاء الشغور الرئاسي يرفع في مقارّه صور المرشد الإيراني علي خامنئي الذي يصفه الأمين العام للحزب حسن نصر الله بـ"القائد"، وهو فيما يُسقط تعهدات لبنان الدولية باحترام القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، يعلن التزامه الثابت بما يسميّه "وحدة الجبهات"، وهو فيما لا يأبه بالخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تلحق بلبنان، يرفع لواء "مساندة غزة" التي لم تستفد منه بشيء، وهو فيما يشتم اللبنانيين والعرب والغرب، يقدّم قصائد التبجيل والمديح بالجمهورية الإسلامية في إيران.

وبسبب نهج "حزب الله" هذا، سقط مفهوم الدولة في وجدان جميع اللبنانيين. المؤيّدون لـ"حزب الله" تهمهم "الدويلة" حصراً. المعارضون لـ"حزب الله" لا يجدون دولة تقوم بواجباتها السيادية وتحمي مواطنيتهم.

وكل ما سبق ذكره ليس سوى تتويج لمسار خطر يقوم على الإستراتيجية الآتية: حماية "المقاومة الإسلامية في لبنان" بضرب "الجمهورية اللبنانية".

ومن أجل أن يتمكّن "حزب الله" من الاستفراد في قراراته، لم يكن ممكناً أن يكتفي بمنطقة عملياته، بل أخذ مساراً شاملاً، بحيث فرض نفسه على مراكز القرار السياسي والأمني والقضائي والاقتصادي في البلاد، وأوجد لنفسه معابر خاصة تعينه على التسلّح والعسكرة والتمويل، وأوجد ميليشيات داخلية تدعمه، وأمن الحماية لعصابات يحركها حين يشاء لمصلحته، وأقام منظومة دعائية خاصة، وأنشأ وزارة خارجية لإدارة تحالفاته، ووضع أسرار الدولة اللبنانية في عهدة قيادته العليا في إيران، وفرض شروطه على الجميع.

ولا يسمح لـ"حزب الله" بالمس بأي من مكتسباته، وبات، بحجة اتهام المعارضين له بصناعة الفتنة يهدد كل من يمكن أن يقف بوجهه بالحرب الأهليّة.

وكشف اغتيال منسق "القوات اللبنانية" في جبيل باسكال سليمان الذي قيل إن "عصابة سورية" خطفت جثته بسيارته المسروقة إلى سوريا، بعد مرورها آمنة على كل الحواجز وفي كل المناطق الأمنية، أنّ غضب اللبنانيين من "حزب الله" فاق كل تصوّر، وسقط منطق الدولة نهائياً، بحيث باتت كل ما تقدمه الأجهزة الأمنية من روايات محور شك كبير.

وفي رده على اتهامات وجهها إلى حزبي "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانيّة" و"من لفّ لفّهم"، بدا نصر الله في ربيع

عام 2024 كأنّه ياسر عرفات في 13 نيسان 1975!

وعليه، بات واضحاً في استقراء الحاضر ما الذي حصل في الماضي!