لماذا تطالب الشعوب والنخب بالديموقراطية، إذا لم يكن لديها جديداً تقوله أو تراه، وكان كل ما تتصايح به منقولاً عن رؤى عتيقة، لم يتجاوزها الزمن وحسب، بل وأثبتت التجارب في كل زمان فشلها. لماذا نطالب بالحرية، ونحن أسرى الخرافات والرؤى والأفكار البالية والمدمرة، وكيف ننشد النجاح ونحن نفتقد مقوماته؟. . الشعب المصري يطمح للرفاهية والاستقلال والريادة، أو أستاذية العالم وفقاً للخطاب المتأسلم، وهو يفتقد لأي من المقومات التي تكفل له الحد الأدنى من معايير الحياة الإنسانية الكريمة، بل ونرفض بإباء وشمم مداواة عاهاتنا الثقافية والاجتماعية. كيف لمن يتشبث ويقدس مقومات العجز أن ينشد النجاح؟

هناك نوعان من quot;الثورةquot;، quot;ثورة بسيطةquot; وquot;ثورة عميقةquot;، تكون الثورة بسيطة وناجحة، إذا كانت مقومات الأفضل المنشود متوافرة على الأرض، فتكون الثورة البسيطة على الإدارة الفاشلة، التي قد تقتضي تغيير أشخاص الحكام، وقد تغير أيضاً نظام الحكم، وهذا تقريباً ما حدث في ثورات أوروبا الشرقية البرتقالية. . أما quot;الثورة العميقةquot; فتحدث حين لا نجد في القاعدة أي من مقومات حالة أفضل، وتكون التربة الوطنية نفسها بحاجة لتقليب وتطهير، ثقافياً واجتماعياً وسلوكياً، وهي الحالة التي لا يفيد فيها تغيير نظام الحكم أو شخوصه، ولا تستطيع مثل هذه الثورات تحقيق نتائج إيجابية سريعة، فالتغيرات الضرورية للتغيير الحقيقي عند القاعدة، تحتاج لزمن طويل حتى تكتمل تفاعلاتها، وربما هذه هي الحالة في مصر الآن.
إلى حد بعيد يمكن اعتبار ما راج من أفكار وتوجهات بعد 25 يناير 2011 بمثابة إنتكاسة للحداثة، ورده للخلف عن أغلب معايير ومفاهيم العصر، سواء كان ردة للستينات من القرن الماضي، أو ردة لقيم البادية قبل أربعة عشر قرناً مضت. . لعلني أحد الذي يجب عليهم التوقف عن لعن الأفكار والرؤى القديمة المسيطرة على العقول، وتسد علينا كل السبل، وأتجه بأصبع الاتهام إلى جيلي وجيل أبنائي، هذه الأجيال التي لم تستطع التوصل لأكثر من السعي للخلاص الفردي ولو بالهجرة، فيما بقيت أفكارها سجينة ذات الكهوف المظلمة، المعادية لروح العصر وقيمه وعلاقاته. . شعبنا الآن يثور ويسب ويلعن حياته وحكامه، وكان بالأولى أن يلعن عجزه عن التطلع للعالم من حوله، ليرقب المتقدمين ويرصد لماذا تقدموا، ويتعظ بالفاشلين وقد أدرك لماذا فشلوا. . الأمل الباقي وقبسة النور التي علينا انتظار تحولها إلى صبح يضيء جنبات حياتنا، هي في قلة قليلة حتى الآن من الشباب الذي امتلك ما يكفي من الضيق والنقمة، ليكفر بنا وبأفكارنا وقيمنا ومثلنا وعاداتنا وتقاليدنا. . فهل تختزن أرحام الأمهات المصريات ما يكفي من هذه النوعية من الشباب؟!!
لدينا بمصر الآن فريقان، فريق يجاهر بكل قوة بما يعتقد فيه، ويبذل حتى النفس من أجله، وفريق يستحي من مجرد إعلان ما يعتقد فيه، فلمن تكون الغلبة يا سادة؟. . الموائمات كانت لعنة عصر مبارك، وأظنها قد تضاعفت الآن، تحت مسمى التوافق والمصالحة والمشاركة الوطنية. . هو التدليس على الذات يا سادة!!. . إذا كنا غير قادرين على التخلص من عاهات دستور 71، مثل مجلس الشورى وكوتة 50% عمال وفلاحين والمادة الثانية، بل وأضفنا لها عاهات جديدة، فهل يحق لنا أن نأمل فيما هو أفضل؟!!
سؤال لغير المتنطعين: هل نحن نستحق بالفعل حياة أفضل؟. . المتنطع: هو من يتجاهل أن كل ما يأخذ من الحياة لابد أن يكون مقابل جهد يبذله، بما فيه نفس الهواء الذي يستنشقه، يحتاج إلى رئتين قويتين تجذبانه. . ماذا يمكن أن يتعلم المصريون مثلاً من هزيمة الفريق الكروي الساحقة أمام غانا، مخيباً الآمال العريضة لهم؟. . لعلنا نتعلم أن الأمل إذا لم يستند لمقومات تبرره فهو الوهم. لا شيء في الحياة يمكن أن نحصل عليه فجأة بلا مبررات أو مقومات. فرقنا الكروية وأنديتنا لها 3 سنوات في ظروف من أسوأ ما يكون، فكيف لنا مجرد الحلم بأن يصل الفريق القومي لكأس العالم. أشد ما يحبطني ويستفزني، هو انعدام الربط لدينا بين النتائج وتوافر المسببات أو المقومات. . الفشل والتخلف هو المصير المحتوم لمن يفشل في ربط النتائج بأسبابها الحقيقية. مثال من يسند نتائج لأسباب متوهمة. لدينا مشكلة في ربط النتائج بالأسباب، فبينهما في مخيلتنا منطقة ضحلة، تعيث فيها ديدان الخرافات، ويوم نجفف هذا المستنقع، لتحل محله الرؤية العلمية، عندها يمكن أن نعرف طريقنا نحو مستقبل مختلف. ليتنا لا ننسى أن النجاح لا يتحقق بالتمني أو التسول أو الدعاء، وإنما فقط بتوافر مقوماته.
لقد ماتت الأيديولوجيا وشبعت موتاً، ومازال اليساريون المصريون في خنادقهم، يلعنون ما يسمونه quot;رأسمالية متوحشةquot;، لا وجود لها في غير كوابيسهم الليلية، ويضمدون جراح الكبرياء والعمر الذي quot;ذهب مع الريحquot;، في سبيل رؤى فاسدة ترتدي مسوح العلم. بالحديث عن نظم ليبرالية اشتراكية، متجاهلين التضاد الجوهري بين الاشتراكية العلمية وخرافة نبوءة ماركس، بالنهاية الطوباوية لصراع الطبقات، التي مازلوا أسراها، وبين الليبرالية التي تبدأ من الإنسان الفرد الرشيد، ولابد وأن تؤدي بالتبعية لصالح المجموع. يتصورون أن اهتمام دول ليبرالية بتقديم المزيد الممكن من الخدمات لعموم الجماهير، هو استعارة من النظرية الاشتراكية الساقطة. في عجز واضح ومعيب عن إدراك حقيقة أننا في عصر العلمانية الليبرالية، التي لا يقيدها أي أيديولوجيات، وإنما توظف العلم لاكتشاف المسارات المثلى لكافة جوانب الحياة الإنسانية، دونما اعتبار أو حتى احترام لهياكل نظرية بائدة، اكتشف إنسان العصر الحالي أنها ليست غير أغلال تقيد الحركة الحرة، المحكومة فقط بالمناهج العلمية في البحث.
الطريق أمامنا واضح لكل قادر على الرؤية، لكننا نرفض السير فيه، خوفاً أو عجزاً. فالشعوب التي ترفض أو تعجز عن قبول العلمانية الليبرالية، تحكم على نفسها بأن تكون من نفايات القبيلة البشرية. . هي العلمانية الواضحة المستقيمة لا سواها. العلمانية ليست كما يقال quot;التفكير في النسبي بما هو نسبي، والتفكير في المطلق بما هو مطلقquot;، بل هي الوداع للجري وراء سراب المطلق، والتركيز على عالمنا الذي نلمسه ونحيا فيه، والذي لا يحتوي غير كل ما هو متغير ونسبي. . ربما دعاة العلمانية في مصر على ندرتهم، هم أخطر مقومات عجزها، فعلمانيتهم كسيحة خجولة، ترتدي النقاب وتتبرأ من نفسها كأنها عورة، ملتزمة موقف الدفاع المتهافت ضد ما يوجه إليها من اتهامات بالحق وبالباطل. . العلمانية هي الجبل الذي علينا تسلقه بشجاعة وإصرار، لنغادر وهاد قروننا الوسطى.