لم تكن صدفة سقوط التفاحة من شجرة مزرعة عائلة نيوتن أبداً، فكل ثمرة نضجت على أي شجرة على وجه الأرض كانت ستسقط، ولم يكن صدفة وجود نيوتن تحتها، فكل طلاب جامعة كامبريدج آنذاك، وبسبب من انتشار مرض الطاعون، أصبحوا بلا جامعات وعادوا كل إلى حياته منتظراً أن ينتهي الموت ليعودوا إلى دراستهم. فالفراغ إذن هو الذي قاد نيوتن إلى جلسته تلك تحت شجرة التفاح، وكطالب ماجستير في تلك الفترة ممن نهلوا من علم ومعرفة وتفكير العلماء كوبرنيكس صاحب نظرية مركزية الشمس ويوهان كبلر صاحب نظرية حركة الكواكب وقانون حفظ الزخم المداري والعالم غاليليو صاحب نظرية التسارع الأرضي، كانت تدور في عقل نيوتن أسئلة طوال الوقت بحثاً عن إجابات.

لا شيء صدفة إذن إلا اجتماع المقدمات معاً؛ نيوتن الباحث عن إجابات وحلول يتابع بها ما بدأه غيره وعطلة الطاعون وشجرة التفاح ولحظة التأمل، تلك المقدمات تصادف اجتماعها معاً حين سقطت تلك التفاحة في جلسة عمل تأملية، فالتقط العالم اللحظة وما كان لأحد عداه لو سقطت مليار تفاحة مثل تفاحته أن يدرك شيئاً اللهم إلا التفكير بتناولها لسد رمق جوعه لا أكثر ولا أقل.

يقول نيوتن عن إنجازه بتواضع لا يعرفه إلا العلماء الحقيقيين: "إذا كنت أرى أبعد من غيري فلأنني أقف على أكتاف عمالقة"؛ ولولا أولئك العمالقة الذين صنعوا الأرضية الخصبة لنجاح نيوتن، لما كان هو ولا كان قانون الجاذبية، فلا شيء يأتي من الصفر إلا الصفر، ولا أحد يذهب إلى الصفر إلا الصفر، ذلك أن أحد المبدعين العلماء الذي أصر على القيام بعشرات التجارب الفاشلة وأسماه العلماء عالماً وضحك منه الأغبياء، فسر دوره في العلم على أنه أراح البشرية من تكرار تجاربه الفاشلة، ولولا فشل عباس بن فرناس لما كان نجاح ما بعده.

بالمعنى المباشر، فشلت ثورات الشعب الفلسطيني جميعها منذ هبة البراق حتى معركة بيروت وخروج المقاومة منها إلى جهات الأرض البعيدة عن بلادها حتى ليكاد المرء يصل حد اليأس من أي أمل بأي عودة، وحتى وصل الأمر بناس المقاومة حد اليأس أو الإحباط أو فقدان الأمل، وقد تكون قلة قليلة هي من كانت تقف على أكتاف عمالقة لم يحققوا الوصول لكنهم قدموا لمن بعدهم تجارب تريحهم من استخدامها لأنها فشلت.

حالة الفشل المتواصل التي عاشها الشعب الفلسطيني وهباته وانتفاضاته ومقاومته قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) جعلت العديدين يستلون سيوفهم لذبح حماس، خصوصاً أولئك الصغار الذين لم يفهموا دروس كبارهم ولم يقدروا من أين يأتي النجاح إن لم نعرف دروب الفشل فنتجنبها، والكبار الذين وقفت على أكتافهم حماس هم فصائل المقاومة الفلسطينية منذ هبة البراق إلى يومنا هذا، بنجاحاتهم وفشلهم، لكن ما ميزها أن قوانين البحث اجتمعت لديها بإدراكها كل دروب الفشل وتصميمها على الوصول معاً، وهذان أمران لا يجتمعان صدفة، بل إن قانون الحاجة هو الذي يأتي بهما معاً، وهما معاً يصنعان ويؤسسان لإيجاد أداة البحث وأداة القياس ومن ثم أداة التقرير انتهاء بقرار العمل.

أكثر من 75 عاماً من قيام دولة الاحتلال واستمرار الظلم على شعب بأسره بلا توقف، وأخطرها كانت تلك السنوات الطويلة من تأسيس معتقل غزة الكبير الذي ظهر وكأن أحداً لا يفكر على الإطلاق بالخلاص منها، وبأنها قدر الغزيين الذي لا انفكاك منه إلا بإرادة أميركا ودولة الاحتلال.

لكنَّ الظلم عادة ما يعمي عيون الظالم، خصوصاً إذا امتد به الزمن وشعر باستكانة المظلوم وتسليم أمره إلى الله، وهو ما حدث مع دولة الاحتلال في السنوات الاخيرة، التي قررت أن تكشف كل ما تفكر به بشكل مفضوح، فأسقطت علناً كذبة الدولتين، وألغت علناً إقرارها بوجود شعب فلسطيني، وبدأت تسعى للتخلص من كل ما هو فلسطيني على أرض فلسطين، وهي بهذا أخرجت من حساباتها أن هناك فلسطينياً واحداً يفكر بإعداد العدة وكل ما يحتاجه اجتماع كل المقومات انتظار للحظة سقوط التفاحة تلك.

الاحتلال المتغطرس بقيادة مجموعة من الأنانيين والأغبياء والذين نزلوا عن أكتاف من سبقوهم وقرروا أن يسيروا نحو القمة من قاعدة الصفر الذي يريدونه أن يكون قمتهم وراحوا يصنعون في أرضهم تأسيساً لزمن لا يرى غيرهم فأسسوا لهزات في بنيانهم وانشغل الكل فيهم بذواتهم واثقين أن من يناصبهم العداء يعيش حالة من يأس لا يحدوها أي أمل.

ذلك الذي جميع بين يديه كل مقومات المعرفة وتجربة البعيد والقريب وارادة رفض الحال والبحث ان ما كان محال لمعت في رأسه الفكرة بأن التفاحة لا بد وأن تسقط بعدما نضجت وازداد نضجها، وانشغل عنها المعنيون بما هو أهم، حتى صارت ضمن مأمنهم الذي لا يحتاج إلى حذر، فاختار هو أن يكون ذاك الحذر الذي غيبوه عن تفكيرهم وفعلهم واستسلموا لصناعة غد لا يقوم إذا لم يبن على أسس قوية، فجاءت تلك اللحظة التي اسمها السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ليعرف الجميع أن على الأرض لا تستقيم الحياة مع الظلم وان صناعة الوعي لا يمكن ان تتم دون حالة تفوق تفكير العاديين أو القانطين من البشر.

هل انتهينا الآن إذن وهل فشلنا وهل ما يصرخ به الأغبياء من هنا وهناك بتجريم حماس والجهاد الإسلامي وإيران وحزب الله وأنصار الله وسوريا والعراق وتحميلهم مسؤولية المذابح وتحميلهم وزر جرائم المحتلين هم على حق، أم أن الحق هو لمن حضر كل هذه التحالفات في سبيل أن يتأكد من قدرته على إسقاط التفاحة في لحظة نضجها ليس قبلاً وليس بعد، وهو ما كان.

لا أحد من شعوب الأرض نال حريته بالورد، وكل الذين فعلوا ذلك فشلوا بما فيهم أصحاب الأكتاف العالية الذين صنعوا أوسلو وصنعوا فلسفة خرقاء لا أساس لها تقول إن الحياة مفاوضات، لكنهم عن قصد أو غير قصد لم يعددوا أنواع المفاوضات، فليس كل تفاوض يجري بالكلام، بل إن الفلاح يتفاوض مع أرضه بسكة الحراثة ومع أشجاره بالمقص، وكذا يفعل السياسي حين يقدم النار على الكلام لكي يجبر عدوه على الاستماع جيداً، ولا يترك له مجالاً للمناورة والافلات من استحقاق لا بد من ان يدفعه.

لم يكن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلا وليد مخاض طويل وتجارب أطول، وفقط الأغبياء من يتنصلون منه ويعيدونه إلى نقطة الصفر، معتقدين أن الفشل هو النتيجة الوحيدة الممكنة لكل فعل، وواثقين أن الفشل لا يؤسس لنجاح على الإطلاق، وهم لا يريدون حتى أن يفتحوا عيونهم قليلاً ليروا أن الكون الذي غيره نيوتن بتفاحة تغيره المقاومة بإرادتها.