بعد أسبوع واحد من انتصار الثورة الاسلامية في إيران، أعلنت سفارة دولة الاحتلال في طهران مقراً لسفارة دولة فلسطين، وبعد شهور قليلة أعلن الإمام الخميني يوم الجمعة العظيمة من رمضان يوماً للقدس. ومع أنني كنت أتغنى بثورة مصدق في إيران قبل ذلك، وأتمنى عودتها، إلا أن ما قامت به الثورة الإسلامية في إيران وشجاعة الإمام الخميني وما تبين من أن الشعارات ليست محض أقوال، جعلني أرى في كل من يعتدي على إيران آنذاك عدواً، أياً تكن شعاراته التي يسوقها، وها نحن اليوم نرى بعد أكثر من أربعة عقود على إعلان يوم القدس ما الذي آلت اليه الأمور، وكيف يجري الاصطفاف في مواجهة المشروع الصهيو - أميركي، ومن هم أولئك الذين يحاربون هذا المشروع بالفعل لا بالأقوال والكذب.

على أرض غزة يلتحم اليوم المسلم الحقيقي من كتائب القسام وسرايا القدس مع الوسطي من أبناء شهداء الأقصى واليساري من أبناء كتائب أبو علي مصطفى وكتائب عمر القاسم وآخرين، دون أن يشكل ذلك خللاً أو فعلاً غريباً، ما دام العدو للبشرية واحداً بينما تجد هناك أبواقاً لا تفعل سوى الهجوم على المقاومة وتبرئة الأعداء من كل جرائمهم، بل إن البعض وصل به الأمر إلى اتهام إيران بأنها سبب ما يجري من مذابح على أرض قطاع غزة، مع أنَّ إيران دفعت ولا زالت تدفع أثماناً باهظة لقاء إسنادها حماس وفصائل المقاومة، وهو ما أكدته فصائل المقاومة بنفسها، وهي دعمت الجميع بلا استثناء، بغض النظر عن توجهاتهم ومشاربهم ما داموا يقاتلون من أجل حريتهم، وهي، أي إيران، صنعت حلفاً حقيقياً للمقاومة ظهر جلياً بالصمود والبسالة والمشاركة من قبل أبطال المقاومة في لبنان واليمن وسوريا والعراق، دون أن يتغير فكر حماس ولا فكر الجبهة الشعبية في شيء.

منذ 25 يوماً أواصل الإضراب عن الطعام مشاركة لأطفال غزة جوعهم، وألماً على ما يجري لهم، ومحاولة للقول لكل الجالسين على الجدار انزلوا إلى منتصف الطريق بأقل ما لديكم إذا كنتم حقاً حريصين على غزة، بدل كيل الاتهامات لحماس وإيران، فلا حماس منعتكم من المشاركة والتحرير ولا إيران أغلقت أبواب الكفاح أمامكم، وبالتالي فإما أن تنضموا لهم، أو تصنعوا بأقل ما يمكنكم، أو فلتصمتوا إلى الأبد.

جدتي التي أعرف، وهي التي ربتني، تنحدر من آل الزين، العائلة اللبنانية المعروفة، وهي التي زرعت بي كل قيم الخير، وكانت تجلسني على شباك ديوان جدي لأستمع إلى أحاديث الصفوة من رجال القرية آنذاك، ولم أعرف يوماً من أي طائفة تنحدر جدتي، حتى فهمت ذلك وحدي، بعد أن عرفت لأي طائفة ينتمي آل الزين في لبنان. لقد ولدت في بيت من تلك البيوت المتعددة الأسر، وكان حوش الدار يجمعنا مع بيت عمي الشاعر الكبير عساف طاهر صباح، وهو من أشهر الشعراء الشعبيين في فلسطين والأردن، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، لكنه لم يأخذ حقه بسبب انتماءاته اليسارية، وقد صحوت على الدنيا وأنا أستمع لأشعاره الكفاحية، ولن أنسى أن أشعاره كانت هتافات المتظاهرين في الخمسينيات، ومنها "دولة بتحكم بالكرباج بشرها بزوال التاج"، وهو صاحب هتاف "وشلون ماكو أمر يا صالح زكي وبناتنا عند الهجانا بتشتكي"، وذلك في معارك 1948، ويقال إنَّ شعاره هذا غير مسار المعركة في جنين حينها، وتم تحرير جنين في 3 حزيران (يونيو) 1948 بعد أن كانت قد سقطت بأيدي المحتلين الصهاينة. وقد كان عمي ولا زال نموذجاً لي في حياتي، وهو ما دفعني للاتجاه إلى محاولة كتابة الشعر في مطلع حياتي، بالرغم من أننا فقدناه مبكراً، لكن صورته لم تغب عن خيالي يوماً، وعند تحولي للمدرسة، وجدت أمامي نموذجاً جديداً يحتذى، وهو معلم الزراعة في مدرسة برقين، القرية الفلسطينية التي أنتمي إليها في محافظة جنين حتى حرب عام 1967، الشيخ عبدالله عزام رحمه الله، والذي كنت ألازمه كظله في سنوات دراستي الأولى، وتلقيت على يديه كل ما هو جميل وخير، قبل أن يغادرنا بسبب مطاردة الاحتلال له.

هؤلاء الثلاثة، وهم جدتي المسلمة الشيعية التي ربتني كمسلم وإنسان، ولم أسمع منها يوماً كلمة واحدة تشير إلى فرق ما بينها وبين نساء القرية، اللهم إلا بلهجتها اللبنانية المحببة وأناقتها المثيرة للإعجاب من كل من عرفها وجمال وجهها الذي لا يضاهيه جمال، وبحسب أهل القرية فإن جمال وجهها الفتان السبب في لبس حجابها الرقيق، وقد ظلت كذلك حتى توفيت رحمها الله، وعمي اليساري الذي لم تسمح لي الدنيا بأن أنهل من معرفته طويلاً، فقد خطفه الموت منا باكراً، لكن تعامله معي وإسماعي كطفل بعض أشعاره التي لم أجد بها ما ينم إلا عن الحب لكل الناس والأجناس والأماكن، ومعلمي المسلم السني الذي بات معروفاً للقاصي والداني أنه من قادة الاخوان المسلمين في العالم ومن أشد المحاربين ضد الشيوعية في أفغانستان، والذي لم أعرف عنه إلا حسن الخلق والشدة ضد الظلم أيا يكن مصدره، فحارب الأنظمة المستبدة وحارب المحتلين الغرباء بما فيهم السوفييت الذين جاءوا إلى أفغانستان محتلين.

من هؤلاء الثلاثة العظام في حياتي تعلمت وصغت شعاري الذي لن أتنازل عنه ما حييت، "كل مظلوم أنا وكل ظلم احتلال"، فمن إذن يمكنه القول اليوم إنَّ من يقف إلى جانب الحق ويسعى إليه ويحارب من أجله كما فعل الإمام الخميني وكما فعلت جدتي ملكة الزين وفعل عمي عساف طاهر صباح وفعل معلمي الشيخ عبدالله عزام ويفعل تلاميذه اليوم، يتحدد بالطائفة، ومن قال إن الخير حكر على أحد، ومن قال إن في الإسلام طائفية أصلاً أو في غيرها من الأديان، ومن قال إن حرية فلسطين ممنوعة عمن يريد لها الحرية إن لم يكن من صنف معين، فصاحب الشعلة هو من يدافع عن الحق ويقاتل الظلم وصاحبه أياً يكن لون رايته.

أبداً لم يكن آرون بوشنيل فلسطينياً من رفح ولا عربياً ولا مسلماً ولا من البلدان الفقيرة المظلومة، ولم يكن بلا عمل وبلا مستقبل، ولم يكن عجوزاً بلا أمل، بل كان طياراً في أسوأ جيوش الأرض، ومع ذلك مات احتجاجاً على ما يجري لأطفال غزة، بل وأوصى بتحويشة عمره لهم، ولم يفكر ماذا سيعتقد البعض بطريقة احتجاجه، ومن سيعتقد أنه مات منتحراً، لأنَّ بوشنيل يملك من الإيمان بالحق حد القناعة أن الله ضد الظلم مهما كان لبوسه، وأنه وحده صاحب الحق المطلق والوحيد بتصنيفه، وتصنيف موته، أياً يكن رأي البشر كل البشر.