يوسف يلدا – سيدني
يستعيد المعرض الذي يقام في باريس العلاقة الودية بين قطبي الفن المعاصر، والتي تأرجحت بين المحاكاة والتنافس. كلاهما ينتميان إلى أسرة تتعاطى مع الفن، وتميّزا بغزارة إنتاجية غير عادية. وكلاهما ذاقا طعم المنفى في باريس، عاصمة الفن خلال فترة إقامتهما هناك. كلاهما خاضا صراعاً مع التشكيل الفني، الذي أخفق في تلبية تطلعاتهما الجمالية الطموحة. وكلاهما أعلنا إعجابهما المتبادل فيما بينهما، والذي تحول إلى ما يشبه التنافس. واليوم، العلاقة الودية الفريدة تلك، رغم فارق العمر بين بابلو بيكاسو (1881- 1973) وألبرتو جياكوميتي (1901- 1966)، تُستعاد من خلال معرض مثير في باريس، تمّ إفتتاحه في 4 أكتوبر/ تشرين الأول، ويستمر حتى 5 فبراير/ شباط القادم، مستعرضاً التشابه والإختلاف، عبر 200 عملاً فنياً، بين عملاقين إثنين في الفن الحديث. يقام المعرض في (متحف بيكاسو) بالعاصمة الفرنسية، ويحتوي على مجموعة تتكون من خمسة آلاف من الأعمال الفنية، ما بين اللوحات، والمنحوتات، والرسومات، والوثائق التي خلّفتها عائلة الفنان الإسباني بعد وفاته في عام 1973. وتتولى عملية المقارنة كاثرين غرينر، الباحثة ومؤرخة الفن الفرنسي، والتي عُيّنت في 2014 مديرة ل(مؤسسة جياكوميتي)، المالكة لأكبر مجموعة من الأعمال النحتية التي أنجزها الفنان السويسري، بعد أن أمضى نصف عمره في (مركز بومبيدو).
تروي كاثرين غرينر وهي تقف في إحدى صالات المعرض، التي تشهد، من خلال العديد من الوثائق، مدى إخلاص الشاب جياكوميتي لسيده "بعد ان توليت مسؤولية الإشراف على المعرض، تفرغت كلياً للبحث في أرشيفه كي أتخصص لأعماله. فوجئت أن إسم بيكاسو كان حاضراً في كل مكان. كنت أردت أن أتحقق من العلاقة الودية والفنية التي كانت تربطهما، والتي أصبحت في طيّ النسيان".
&عقب وصوله إلى باريس في عام 1924، كتب النحات رسالة إلى والده قائلاً "ذهبت مؤخراً لرؤية معرض لبيكاسو كان قد أعجبني كثيراً. ما يقوم به عبارة هوعن فن لا علاقة له برواية القصص". في عام 1931، بعد أن أصبح فناناً واعداً يقترب من الثلاثين، يجلس جياكوميتي في شرفة متحف (لا كوبولا)، قرب مرسمه في حي (مونتبارناس)، ليبعث لوالده برسالة أخرى "غداً، بعد أن أتناول الطعام، سوف أذهب إلى منزل بيكاسو برفقة ميرو. يسعدني التعرّف عليه وأن أرى ما يقوم به". بعد مرور عام، يزور بيكاسو أول معرض شخصي لجياكوميتي، حيث يشير الأخير، في رسالة لاحقة، مفتخراً بتلك الزيارة: "هذا جميل". ومنذ تلك اللحظة، لم تنقطع العلاقة بينهما. وفي بداية الأربعينات كانا يلتقيان يومياً، ويتفقان على موعدٍ في الحانات التي يرتادها المثقفين المحليين، مثل مقهى (دي فلوري) أو (ليس دوكس ماغوتس). يشرع جياكوميتي برسم أعمال بيكاسو في دفاتره، ونحت لصورة ذاتية للفنان الإسباني، لم ينته منها أبداً. من جانبه، يعرب بيكاسو عن إعجابه ببعض منحوتات جياكوميتي، ويوافق على الحفاظ على علاقة متبادلة معه. ويؤكد كاتب سيرة حياة بيكاسو بيير دايكس "كان في غاية الأهمية لبيكاسو إكتشافه، أنه لم يعد وحيداً. وكان جياكوميتي قد جسّد بعض الأفكار البصرية لبيكاسو في أعماله"، ويضيف بيير "أن الرسام المالقي كان يرى في أعمال النحات السويسري ذات الوحشية الجنسية والعنف التي كانت تتسم به أعماله". ويكشف المعرض الأخير لبيكاسو وجياكوميتي، أنه رغم عدم تشابه أعمالهما على الإطلاق، إلاّ أنها تميل إلى تجسيد نفس الموضوعات في الشكل والعمق. بدءأ، أن كل منهما وعلى حدٍ سواء، يسعيان للبحث عن طريقة ثالثة بين التشكيل والتجريد. يقول غرينير"إنهما يحاولان الوصول إلى هدفهما بلغة مجردة، لكنهما لا يعبران إلى الجانب الآخر. كل منهما يرتبط بعلاقة قهرية مع الإبداع، وإنهما بحاجة إلى هذا الإبداع من دون توقف، والشك بالنفس بحثاً عن أساليب جديدة في التعبير".
وخلال كل المراحل السريالية، كان يبدو جلياً تأثرهما بالفنون البدائية والحضارات غير الغربية، مثلما تكشف إحدى صالات المعرض، حيث تتحاور أقنعة بيكاسو مع (المرأة الملعقة) لجياكوميتي، والتي كان إستلهم شكلها من فن النحت الأفريقي. وإستعان الإثنان زوجاتهم وعشيقاتهم كموديل، ليلغيان بذلك الحدود بين الحياة والعمل الفني. وقام كل منهما أيضاً بالمزج بين الريادة والتقليد، في محاولة منهما للبحث عن لغاتٍ جديدة عبر الأجناس الكلاسيكية، مثل الصور، والحانة، والمنظر، وفانيتاس. رغم أن جميع الأعمال غير مماثلة، إذ نرى أن أعمال جياكوميتي تحمل بين طياتها صفة الكآبة، بينما يستمر بيكاسو في ثورانه البركاني بشكل كبير.
ستنتهي تلك العلاقة الودية بنفس السهولة التي بدأت. ويستند دليل المعرض على نص فرانسوا جيلوت، الرسامة وأم لطفلين من بيكاسو، كلود وبالوما. ولا تزال جيلوت تتذكر تلك المشادة العنيفة التي دارت بين الرسام والنحات، رغم بلوغها 94 عاماً، إثر إكتشاف جياكوميتي أن بيكاسو توسط لعدم إشراك النحات في المعرض الذي كان تحت إدارة لويس ليريس. ومنذ ذلك الحين تصاعدت مشاعر العداء بينهما. وفي العام 1957 كان ذلك التعلّق المتبادل قد أصبح من الماضي. وفي شريط فيديو مسجل في المعرض، والذي يبدو فيه جياكوميتي وهو يرسم صورة ذاتية لسترافينسكي، يقول السويسري واصفاً بيكاسو بأنه "وحش". رغم أن جياكوميتي لم يعش تجربة سلبية خلال فترة علاقته مع بيكاسو، ولم يبلغ الأمر به لقتل ذلك الوحش، لكن، أقل ما يمكن أن يقال، أنه تعلّم منه.&
&